-
رواية "المئذنة البيضاء" ليعرب العيسى بين الدعارة والسياسة
الكتابة أسلوب حياة، وليست تعبيراً عن الحياة، والروائي هو الشكل الجديد للراوي، فهو يوجد العلاقة بين الخيال والواقع المعاش، ويدخل مغامرة اكتشاف اللحظات التاريخية وتشكيلها عبر لغته الروائية المستمدة من الحياة الاجتماعية التي تساهم في وضع حدود هذه الحياة وآفاقها ورؤيتها لذاتها في فضاء العمل الروائي الأدبي الفني.
فالحكاية الروائية ليست مجرد متعة هامشية، إنّها الفضاء الروائي الذي يعيشه القارئ في علاقته مع الرواية، ويظهر ذلك في رواية المئذنة البيضاء للروائي الصحفي يعرب العيسى الصادرة عن منشورات المتوسط، في العام 2021، إيطاليا.
الدعارة في الرواية:
نتعرف في الرواية على الشخصية الأساسية "غريب الحصو، مايك الشرقي، والشيخ الغريب"، هذه الشخصية موضوع تحقيق صحفي استقصائي يتحول إلى رواية، إذ يهاجر الطالب غريب من دمشق بعد معاناة فيها إلى بيروت، لكي يعمل ويعود ليكمل دراسته، لكن في بيروت يعمل بفندق (مازا هوتيل) الذي كان الخواجة دريان يملكه، ولم يبقَ طويلاً على قيد الحياة إذ وافته المنية، وحضر دريان الابن إلى بيروت، وتقبل العزاء بوالده، وباع الفندق للرجل الغامض "قسام" الذي اشترى القدرة على ممارسة المتعة كلها من عاهرات صغيرات وسائقين عموميين ومؤجري شقق مفروشة.
وأعاد الشيخ قسام تقسيم الفندق إلى ثلاثة أقسام: غرف فندقية عادية يشغلها زوار عاديون لم يصلهم شيء عن سمعة المكان، أو سياح أوربيون يفتنهم الطراز المعماري، والقسم الثاني غرف الطابقين الثاني والثالث التي تؤجر لساعة أو ساعتين للأزواج الخائفين الذين يصطحبون عاهراتهم من داخل الملهى أو من خارجه، والثالث ملهى "سمراء البادية" الذي يأتي أهم زواره من الكويت والعراق وبعض إمارات الخليج الناشئة، فقد فاقت شهرته هناك شهرته في لبنان.
وأبرم غريب الحصو بهزة رأس يائسة، كان لما قبل قرن أو قرنين يسمى صك عبودية. سيقوم بكل المهام التي يكلفه بها الشيخ والتي لا يعرفها، ومواعيد عمله ستكون في أي وقت من الأربع وعشرين ساعة، ومقابل ذلك سينام ويأكل، وسيعطيه الشيخ مكافآت بقدر ما يعجبه أداؤه.
ولأسباب خاصة بالشيخ قسام بعد ثلاثة أشهر، يعين غريب الحصو مراقباً ومشرفاً على العمال والموظفين في الفندق والملهى ويطلق عليه اسم مايك، وحتى تكتمل خبرته في المهنة يطلب منه همساً في أذنه: "خذ غصون إلى إحدى الغرف وضاجعها، لا تخف! هي محترفة في التعامل مع الأغرار"، وبعد ساعة من عودته قال له: "لم تعد غرّاً الآن، اختر واحدة صغيرة من الفتيات وخذها إلى السرير!". ويكتمل الاسم حين سألت إحدى الفتيات غصون بمرح عن الفارق بين مايك القديم ومايك الجديد، وضعت يدها اليسرى بين ساقيها وأشارت بإصبعها السبابة للأمام وقالت: هذا المايك شرقي.
ورغم الوضعية الجديدة لـ(غريب، مايك شرقي) إلا أنّه لم يصب بالغرور، وإنما "أحلّ الغرائز محل الأفكار التي كان يخطط لدراستها، صار طالب دعارة بدل أن يكون طالب فلسفة، بحث عن كل الكتب التي استشهد بها كولن ويلسن، ثم الكتب التي استشهد بها تلك الكتب، اختبر المنافسين، درسهم كمقرر، قام بزيارات خاطفة إلى بيوت الدعارة الأخرى، استأجر فتيات، طلب منهن أشياء غريبة وتفحص استجابتهن. نام في الفنادق الأخرى، استأجر غرفاً وأجنحة، شرب كؤوساً في البارات، جرب كوكتيلاتها الخاصة، راقب الصباح من المقاهي".
في بداية عمله كقواد، اضطر أن يناقض شخصية القواد التقليدية التي تتصف بالقسوة والسادية. كان مجبراً في البداية أن يعامل الفتيات بلطف لأنه ليس واثقاً من نفسه بما يكفي، ولأنه ليس متأكداً من حدود الفعل الذي قد يشعر الشيخ قسام بالمنافسة، ولأنه كان يحتاجهن كي يتعلم منهن، بنى صداقات معهن. يغريهن بالمكافآت والهدايا بدل تهديدهن بالضرب والموت، يبقيهن باستخدام الطموح بدل حجز أوراقهن الثبوتية أو ربطهن بالحبال. مع الوقت وجد أنها وسيلة ناجحة، حسّنت العمل وزادت الأرباح.
وعن شخصيات العاهرات يكتب الروائي يعرب العيسى "لا تثق العاهرات بأحد، لأنّ لا أحد يعطيهن ما يستحق الثقة، ولا حتى تلميحاً بذلك، يبدلن أسماءهن بشكل دوري، ليس تخفياً كما نظن نحن الذين ننام في غرف مضجرة، بل لأن المرأة منهن قد وثقت برجل ما مالت إليه حين كان اسمها ساندرا، ولما خذلها، لم تجد وسيلة لعقابه سوى أن تقتل ساندرا وتجعل اسمها سارة. وبعد شهرين سيخذلها واحد آخر فتقتل سارة لتصبح ميدو. العاهرات الدائمات والطارئات في السمرا كن يثقن بمايك، فهو بفضل انحداره من أصل وضيع، كان يقدم لهن ما لا يقدمه أحد، لم يكن يظن أنه أفضل منهن".
ويعرف الروائي من خلال شخصية مايك الدعارة إذ يقول: "الدعارة كالزراعة، مهنة طيبة وبسيطة، يمكنك أن تبيع محصولك، كما هو، لكن إذ أردت أن تربح أكثر فعليك أن تحوله إلى شيء آخر. حصيلة السنوات الخمس أوصلت مايك إلى قناعة أن الاستثمار الأفضل لأجساد النساء ليس الإيلاج فيها، بل الولوج عبرها إلى عقول الرجال وإرادتهم".
الوثائقية السياسية في الرواية:
تسير الخطوط السياسية في الرواية من زاويتين، الأولى عبر الحضور المباشر في السرد الروائي السياسي للوقائع السياسية التي حصلت في العالم العربي والعالم، مثل اتفاق الطائف واجتياح صدام حسين للكويت وحرب تحريرها، واحتلال بغداد من قبل الأمريكان. والزاوية الثانية علاقة مباشرة بين عدد من الشخصيات السياسية اللبنانية، مثل نواب في البرلمان اللبناني، وسياسيين مباشرين ذوي نفوذ عسكري وسياسي في لبنان.
ويربط الروائي يعرب العيسى بين افتتاح الفندق، واجتماع مجلس النواب اللبناني في الطائف، إذ يقول: "اليوم المقرر لافتتاح الفندق بشكله الجديد واسمه الجديد كان عملياً اليوم الذي انتهت فيه الحرب الأهلية اللبنانية. في الثلاثين من أيلول 1989، اثنان وستون نائباً من الثلاثة وسبعين الذين بقوا على قيد الحياة بعد خمسة عشر عاماً على آخر مرة انتخبهم بها أحد، سافروا إلى الطائف ليتقاسموا الدماء التي سالت في الحرب. لم تنتهِ التعديلات في الفندق كما كان يخطط، ولا التعديلات في لبنان الكبير كما كان رعاة الاتفاق يخططون. الأعمال التي رغب مايك أن ينهيها بعشرين يوماً احتاجت إلى ثلاثة أشهر، فقد خلالها العائدون من الطائف رئيس الجمهورية بانفجار وصلت الارتجاجات التي أحدثها في الظريف إلى نوافذ "أبولو هوتيل" الذي حمل لسبعة عشر عاماً اسم "مازا هوتيل". انعقد مجلس النواب وانتخب رئيساً جديداً، ونجح مايك في صنع فندق جديد. كلاهما يخفي وظيفته الحقيقية".
هذا الربط والتداخل في العمل الروائي بين العمل السياسي المباشر كانتخاب رئيس الجمهورية الأول "رينه معوض" الذي قتل في عملية اغتيال واضحة لتعطيل عملية إنهاء الحرب الأهلية، وعودة الأدوات والأشكال السياسية القديمة للفعل السياسي المباشر، وبين الفندق الجديد الذي يقوده مايك، وعملية الاستقلاب التي أجرها في السوق السياحية في الساحة البيروتية، وعملية عودة الحياة السياسية التقليدية للساحة السياسية البيروتية. هذا الربط أعطى الرواية بعداً سياسياً واضحاً في العملية السياسية اللبنانية بترابطاتها الإقليمية والعربية.
أما الجانب السياسي المباشر المتعلق بالنائب رغيد المتيني، صاحب العلاقة المباشرة مع الشيخ قسام، وبعد موته، أرسل مع مايك الشرقي إلى "المتيني" عقداً من تلك العقود الخاصة التي وقع بنفسه تفويضاً بتنفيذها لقواد معروف مثل الشيخ قسام، خصوصاً إذا كان مضمون الورقة الأولى كتاباً موجهاً من وزير النفط السوري إلى مؤسسة اسمها (سادكوب) لبيع عشرة ملايين ليتر من المازوت بالسعر السوري المدعوم للنائب المناضل ضد النفوذ السوري في لبنان، والورقة الثانية كتاب من النائب إلى الوزارة (الشقيقة) تتضمن تفويضاً للمواطن اللبناني قسام الزهواني باستلام الكمية وبيعها في السوق اللبناني الحر.
بهذه الأوراق التي أرسلها إلى النائب المتيني أعاد ربط ما كان يقوم به الشيخ قسام الزهواني به مباشرة، وليس بعائلة الشيخ (ابنتيه وبقية أفراد العائلة) حيث أخرجهم من ساحة الفعل التجاري والسياحي للراحل قسام.
إن الروائي يعرب العيسى يعمق الخطوط الروائية، خصيصاً السياسية، ليصل إلى تكامل كمعمار روائي.
أخيراً.. إن رواية المئذنة البيضاء تستحق القراءة والكتابة عنها للوصول إلى عمق شخصية "غريب الحصو، مايك الشرقي، والشيخ الغريب" المتلونة والمتقلبة كما تقلب الزمان السوري منذ سبعينيات القرن الفائت إلى أيامنا هذه، التي يؤشر عليها العيسى في بنية روائية منذ أواسط القرن العشرين إلى بداية العشرية الثالثة في القرن الواحد والعشرين، فالرصد الدقيق لعالم الدعارة الموظفة في بيروت، بعيداً عن الجندرية النسوية، وإنما التعامل مع الجسد الأنثوي كسوق حقيقية قابلة للاستغلال المتعوي المدفوع الثمن، يمتد منها إلى آفاق رحبة في المنطقة حيث تدخل إلى الأجواء القبرصية والعالمية من بوابة البزنس.
ليفانت - بسام سفر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!